المطعن الثاني ـ وجود المنافقين في مجتمع الصحابة يناقض القول بعدالتهم:
لا أحد ينكر أن المنافقين كانوا مندسين بين صفوف الصحابة، وشهد عدد منهم بعض المشاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وخاض عدد منهم بعض الغزوات ، ولكن لا لإعلاء كلمة الله، وإنما لأغراض أخرى. ومع ذلك فقد كان المنافقون معروفين لدى أعيان الصحابة، ويعرفهم أكثر الصحابة، ولم يكن لينخدع أحد بهم، وذلك لأن آيات القرآن الكريم بينت كل حركاتهم وسكناتهم، حتى خلجات قلوبهم. وليس أدل على ذلك من وجود سورة كاملة في القرآن الكريم نزلت في بيان حقيقتهم وصفاتهم وسلوكهم، ألا وهي: (( سورة المنافقون )).
المطعن الثالث ـ ارتداد بعض الصحابة بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى:
إذا نظرنا في كتب التاريخ والسيرة النبوية، فإننا لا نجد دليلا واحدا على أن أحدا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن هاجر وجاهد معه، وتحمل في سبيل هذه الدعوة من المشاق والمتاعب والجهد ما الله به عليم، قد ارتد عن دينه بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. نعم، قد حصلت حركة ردة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولكن ممن ؟ وأين ؟.
يجيب على ذلك الإمام الخطابي رحمه الله بقوله: (( لم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب، ممن لا نصرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المشهورين )) (17).
المطعن الرابع ـ الادعاء بأن الصحابة قد كفر بعضهم بعضا، وكذب بعضهم بعضا:
هذا ادعاء متهافت لا دليل عليه، حيث إننا لم نجد أحدا من الباحثين تمكن من إثبات دليل صحيح واحد يمكن الاعتماد عليه في إثبات هذه الدعوى. ولو كانت مثل هذه الأمور قد حصلت في مجتمع الصحابة، فلماذا لم ينقلها لنا الثقاة من الرواة ؟ فعدم نقلها، أو الاهتمام بها دليل على عدم وقوعها بينهم رضوان الله عليهم، وبخاصة أنها مسألة من المسائل المتعلقة بالجانب العقدي في حياتهم، وبها تتعلق كافة الأحكام الأخروية.
ولو سلمنا جدلا أن هناك حوادث فردية قد وقعت بين الصحابة في هذا الباب، فإنه ليس من الصواب تعميمها واعتبارها أمورا عامة تبنى عليها أحكام على مجتمع بأكمله.
أما مسألة التكذيب: فإنه يغيب عن بال الكثير ممن يتحدث في هذه المسألة أن كلمة كذب لها استعمالان:
الأول ـ استعمال شائع، يراد به: القول المخالف للحقيقة والواقع، وهو ضد الصدق. وقد تواترت عن الصحابة الكرام آثار كثيرة في هذا الباب، كما تواتر من معرفة أحوالهم، أن الكذب بهذا المعنى لم يكن معروفا بينهم، ولم يثبت عن واحد منهم، لأنهم كانوا يرونه من الأمور المنافية للدين والأخلاق، وكانوا يَعُدُّونَ الكذب من خوارم المروءة.
ومن تتبع أخبار العرب في الجاهلية، واطلع على صفاتهم الأخلاقية، يجد أنه من أشد الأمور على الرجل العربي أن يُؤْخَذَ عليه الكذب، لأنه كان يُعَدُّ منقصة في أخلاق الرجال، وربما كان الواحد منهم يدفع الثمن غاليا مقابل أن لا يقال عنه إنه كذاب، ومهما كانت درجة العداوة بين شخص وآخر، فإن أحدهم لن يتردد من قول الصدق في حق خصمه.
فقد روى الإمام الطبري في تاريخه بإسناد حسن، قصة أبي سفيان بن حرب t مع هرقل ملك الروم قبل إسلامه، وفيها قول أبي سفيان: (( فأقعدني بين يديه، وأقعد أصحابي خلفي، ثم قال: إني سأسأله ؛ فإن كذب فردوا عليه ؛ فو الله لو كذبت ما ردوا عَلَيّ ؛ ولكني كنت امرأ سيدا أتَكَرَّمُ عن الكذب ؛ وعرفت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عَلَيَّ، ثم يحدثوا به عني ؛ فلم أكذبه )) (18).
فإذا كان أبوسفيان رضي الله عنه حال كفره قد أنِفَ من أن تحفظ عليه كذبة، أفلا يكون من تأدب بأدب القرآن الكريم، وتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، أولى بهذه الأنفة والمكرمة ؟.
وقد أطنب الإمام مسلم رحمه الله في إيراد الأدلة الدالة على أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يكذبون، أو يكذب بعضهم بعضا(19).
الثاني ـ استعمال خاص، وهو استعمال عند أهل الحجاز خاصة، حيث يطلقون كلمة الكذب، أو مصطلح كاذب: ويريدون به: (( الخطأ )).
وعليه فإن الأقوال التي صدرت عن بعض الصحابة في هذا الباب محمولة على هذا المعنى.
والتخطئة من الأمور الطبيعية التي لا خلاف عليها ولا اعتراض، لأن الاختلاف في الرأي، والتخطئة في الاجتهاد أو الحكم قد وقع بين الصحابة. ولكن ذلك لا يعتبر مدعاة إلى الطعن في عدالتهم.
المطعن الخامس ـ أنهم بشر يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من الخطأ والنسيان والسهو والهوى:
نقول: لا ينكر أحد بأن الصحابة رضوان الله عليهم بشر، يعتريهم ما يعتري سائر البشر، فهم معرضون للسهو والنسيان والخطأ كغيرهم. ولكن ذلك لا يعارض القول بعدالتهم، فقد تميزوا عن غيرهم بمعاصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وشهودهم للحوادث. وقد تجسد ذلك في حياتهم، وحفظته ذاكرتهم، مع مذاكرتهم المستمرة لما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم، والتزامهم جانب الحيطة والحذر والمبالغة في الدقة، سواء في السماع أو الرواية، وكذا اجتنابهم ما يشك فيه من الحديث.
يضاف إلى ذلك أنه كان إذا رأى أحدهم وهما أو خطأ من صحابي آخر، لم يكن ليسكت عليه، بل يبادر إلى بيان موضع الوهم ويوضحه.
ومن ذلك ما رواه الإمام البخاري بإسناده عن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبدالله بن عمر t جالس إلى حجرة عائشة رضي الله عنها، وإذا أناس يصلون في المسجد صلاة الضحى.
قال: فسألناه عن صلاتهم ؟
فقال: بدعة.
ثم قال له: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ؟
قال: أربع، إحداهن في رجب. فكرهنا أن نرد عليه.
قال: وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة. فقال عروة: يا أماه ! ألا تسمعين ما يقول أبوعبدالرحمن ؟
قالت: ما يقول ؟
قال: يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات، إحداهن في رجب.
قالت: (( يرحم الله أبا عبدالرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده، وما اعتمر في رجب قط )) (20).
وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر:
(( إن الصحابي الجليل المكثر، الشديد الملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم، قد يخفى عليه بعض أحواله، وقد يدخله الوهم والنسيان، لكونه غير معصوم )) (21).
لذا فمثل هذه المراجعات والاستدراكات لا تعتبر دليلا على أن الصحابة كان يطعن بعضهم بعضا، أو يتهم بعضهم بعضا.
وتبقى مسألة مهمة هنا، وهي: أن صاحب الدعوى أدخل كلمة: (( الهوى )) التي نقلها أبورية عن المقبلي. وهي كلمة تحمل في طياتها اتهاما خطيرا للصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ألا وهو: الاتهام بوضع الحديث.
وسوف أجيب عن هذا الاتهام لاحقا عند بيان جهود الصحابة رضوان الله عليهم وخطتهم في الحفاظ على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
المطعن السادس ـ الاستدلال على عدم عدالة الصحابة بالحروب والفتن التي وقعت بينهم:
نقول: إن ما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم من حروب وفتن، وكل من خاض فيها من الصحابة، كان لكل واحد منهم اجتهاد في هذه المسألة، وكان كل واحد منهم يرى ويعتقد أنه على الحق في ما رآه، وكان يرى أنه من الواجب عليه الدفاع عن هذا الحق.
فإذا تقرر معنا هذا الأمر ـ أن ما وقع بين الصحابة كان من باب الاجتهاد ـ كان كل منهم مأجورا على قدر اجتهاده، فمن كان مصيبا في اجتهاده فله أجران، ومن كان مخطئا في اجتهاده فله أجر واحد. ومع ذلك فلم يشترك كل الصحابة في الأحداث التي جرت في عصرهم، كما أشار إلى ذلك الإمام محمد بن سيرين رحمه الله، بقوله: (( هاجت الفتن، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، فما خَفَّ لها منهم مئة، بل لم يبلغوا ثلاثين ))(22).
ويرى الإمام الآمدي رحمه الله أنه من الواجب في هذه المسألة، أن نحمل كل ما جرى بينهم من الفتن على أحسن حال، لأن ما وقع إنما كان نتيجة لما أدى إليه اجتهاد كل فريق، من اعتقاده أن الواجب ما صار إليه، وأنه أوفق للدين، وأصلح للمسلمين. وعلى هذا: فإما أن يكون كل مجتهد مصيبا، أو أن المصيب واحد والآخر مخطئ في اجتهاده. وعلى كلا التقديرين ؛ فالشهادة والرواية من الفريقين لا تكون مردودة، إما بتقدير الإصابة، فظاهر، وإما بتقدير الخطأ مع الاجتهاد، فبالإجماع (23).
ويقول ابن بطة العكبري: (( ونكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شهدوا المشاهد معه، وسبقوا الناس بالفضل، وأمرنا بالاستغفار لهم، والتقرب إليهم بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم... ولا ننظر في سائر المنازعات التي جرت بينهم، فعلى ذلك اتفاق سادات علماء هذه الأمة ))(24).
ونختم بقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة، حيث قال:
(( ما ينقل عن الصحابة من المثالب نوعان:
أحدهما ـ إما كذب كله، وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن. وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب، يرويها الكذابون المعروفون بالكذب.
النوع الثاني ـ ما هو صدق، وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوبا، وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران، وإن أخطأ فله أجر. وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب، وما قدر من هذه الأمور ذنبا محققا، فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة. لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة. فما من ذنب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك ؛ فهم أحق بكل مدح، ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة ))(25).
المطعن السابع ـ الادعاء بارتكاب بعضهم الكبائر، وهي منافية للعدالة:
من هذه الأمور: حادثة الإفك، والتي تم فيها قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وحكم القاذف أنه فاسق بنص القرآن الكريم إن لم يأت بأربعة شهود.
يجاب على ذلك: بأن الذين وقع منهم القذف قد نزل فيهم حكم الله تعالى بإقامة الحد عليهم، ورد شهادتهم ما لم يحدثوا التوبة بعدها. فقد نزل فيهم قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ سورة النور ].
وكان الذي تولى كبر الإفك عبدالله بن أبيّ بن سلول، رأس المنافقين في المدينة المنورة (26).
أما الذين خاضوا فيه فهم: حسان بن ثابت، ومسطح، وحمنة بنت جحش (27).
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة حد القذف على هؤلاء الثلاثة (28).
وقد رد إليهم صلى الله عليه وسلم اعتبارهم، بحيث انتفت عنهم صفة الفسق، وقبلت شهادتهم، كما قبلت روايتهم للحديث.
أما بالنسبة لعبد الله بن أبي، فالراجح أنه لم يقم عليه الحد، لواحد من سببين:
الأول: أن إقامة الحد فيه كفارة عن الجاني، وعبد الله بن أبي ممن توعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، فهو ليس أهلا لإقامة الحد عليه.
الثاني: أن هذا المنافق كان لا يترك دليلا ضده، فلا يتكلم بالإفك أمام المؤمنين (29).
وقد ثبت أيضا أن كل من ابتلاه الله سبحانه وتعالى من الصحابة بمعصية، قد طهره الله منها قبل انتقاله إلى جوار ربه عز وجل. ومن أبرز الأمثلة على ذلك:
قصة ماعز بن مالك الأسلمي، الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (( إني أصبت فاحشة، فأقمه عَلَيَّ )) (30).
وقصة المرأة الغامدية، التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت له: (( يا رسول الله، إني قد زنيت، فطهرني ))(31).
لذا فإنه لا يمكن لأحد مهما كانت درجته في العلم أن يُثبت أن أحدا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قارف ذنبا ولم يتب منه، أو يطهر نفسه منه، وذلك حتى يرغم أنف كل من يعترض على قوله تعالى: ﭽ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭼ [ سورة التوبة 100 ].